"واشنطن بوست": العالم بين جريمتي بن بركة وخاشقى.. ما هي الدروس المستخلصة ؟؟
كان هناك حاكم لدولة في الشرق الأوسط، في الثلاثينات من عمره، يقدم نفسه كإصلاحي، ولم يلق أي معارضة أثناء تعزيز سلطته. كان يكره بشكل خاص أحد المنشقين عن سلطته، من حاشية القصر السابقين، قبل أن يلجأ إلى المنفى الإختياري، وصار يجوب العالم وينتقد الأساليب القمعية للحاكم، كما شجب، أي المنشق، حرباً عدوانيةً شنّها الحاكم على جاره.
ذات يوم، تم إستدراج المنشق إلى مدينة أجنبية، واعتقل ولم يظهر له أثر منذ ذلك الحين. الحاكم ينفي أي علاقة له بإختفاء عدوه اللدود ، رغم أنه تم توثيق رحلات سريعة لرجالاته إلى المدينة إياها، في ذلك اليوم المشؤوم.
لعلكم تفكرون الآن في العربية السعودية والصحفي جمال خاشقجي والخبر الذي يتصدر الصحف حالياً، ولكن الحاكم المقصود، في واقع الأمر، هو الحسن الثاني ملك المغرب الراحل، والمنشق هو المهدي بن بركة، معلمه السابق.
في 29 من أكتوبر الجاري ستكون قد مرت 53 سنة على إختطاف بن بركة. في هذا التاريخ من كل سنة، يتجمع نجل بن بركة ومجموعة صغيرة من محبيه في في مكان الإختطاف قبالة مقهى "ليب"، في شارع "سان جيرمان" في باريس، ومطلبهم الذي يرفعونه منذ مدة طويلة ولم يتحقق هو أن يكشف المغرب ووكالات الإستخبارات الأجنبية عن كل ما يعرفونه عن مصير "تشي غيفارا" المغربي.
بن بركة مختلف عن خاشقجي، الصحفي السعودي المعارض المعتدل المنفي الذي دخل الى قنصلية العربية السعودية في إسطنبول في الثاني من أكتوبر الماضي لإستخراج وثائق شخصية وإنقطعت أخباره منذ ذلك الحين وسط مخاوف من وفاته. ولكن "قضية بن بركة" تنطوي على دروس مهمة حول كيفية الرد على الإغتيال المزعوم، وكذلك تكلفة التقاعس في التفاعل معها..
سنة 1961 تولى الحسن الثاني الملك خلفا لوالده، وفي السنة الموالية تم إعتماد أول دستور في مغرب ما بعد الإستقلال خول للمؤسسة الملكية صلاحيات واسعة، وفي ذات الآن نص على برلمان متعدد الأحزاب، خلافا للحزب الوحيد الذي شكل القاعدة في مرحلة التحرر من الإستعمار.
كان الحسن الثاني ينوي تحييد الأحزاب من خلال تدجينها، وضربها بعضها ببعض، ولكن بن بركة رفض المشاركة في اللعبة، كما شجب دخول الحسن الثاني في حرب حول الحدود ضد الجزائر سنة 1963، ما جلب له حكماً غيابياً بالإعدام بتهمة الخيانة العظمى.
بعد خمسين سنة لم تنكشف بعد القصة الكاملة لما حدث للمهدي بن بركة. غير أن دعوى في محكمة فرنسية، والعديد من التحقيقات التي أنجزها صحفيون، حددت أن بن بركة، الذي كان حذراً اتجاه المؤامرات التي تستهدف حياته، تم إستدراجه إلى باريس، حيث قام شرطيان فرنسيان، على صلة بعملاء إستخبارات مغاربة وفرنسيين، ومجرميْن فرنسييْن، بإعتراض سبيله في شارع واسع حيث يوجد مقهى "ليب" الشهير، وإقتادوه إلى "فيلا" في ضواحي باريس، وهناك قد يكون عملاء مغاربة عذبوه حتى الموت بحضور محمد أوفقير، الساعد الأيمن للملك.
هناك تضارب في الروايات حول ما حدث له. البعض يقول إن مختطفي بن بركة قتلوه عمداً، والبعض الآخر يقول إنه قُتل عن طريق الخطإ قبل إقتياده إلى المغرب. لم يتم العثور أبدا على جثته.
غضب الرئيس الفرنسي "شارل دوغول" من كون مصلحة التوثيق الخارجي ومكافحة التجسس (جهاز الإستخبارات الخارجية الفرنسي) ساعدت عملاء الإستخبارات المغاربة في هذا الإختطاف الذي تم على التراب الفرنسي. ورداً على ذلك قام بإصلاح مصلحة التوثيق الخارجي ومكافحة التجسس ووضعها تحت مسؤولية وزارة الدفاع. كما طالب "دوغول" المغرب بتسليم أوفقير، ولما رفض الملك، قام بقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. وفي سنة 1967، أدانت محكمة فرنسية أوفقير وإثنين من المتورطين في الجريمة على مستوى أقل وحكمت على أوفقير بالسجن المؤبد بسبب الدور الذي لعبه.
وأمام تدهور العلاقات المغربية الفرنسية نسجت دول غربية أخرى علاقات تجارية وإستراتيجية مع المغرب، حليفها في الحرب الباردة. ولم تتصالح فرنسا مع مستعمرته السابقة إلا بعد أن تولى "جورج بيدو" رئاسة فرنسا سنة 1969، ووضعت "قضية بن بركة" خلف ظهرها. ومنذ ذلك الحين، وأمام إستماتة وضغط عائلة بن بركة وداعميهم، قامت فرنسا برفع السرية عن بعض الوثائق، وليس على ملفات الإستخبارات التي من شأنها أن تكشف بشكل كامل عن مصير بن بركة والدور الذي لعبته الوكالات الإستخباراتية الحكومية الفرنسية فيها.
في المغرب قالت لجنة حقيقة تم إنشاؤها سنة 2004، بعد وفاة الحسن الثاني، إنها وصلت إلى طريق مسدود في حل قضية بن بركة بسبب عدم تعاون الأجهزة والمسؤولين المعنيين.
القوى الغربية ربما لم تذرف الدموع بعد تصفية شخصية إشتراكية خلال الحرب الباردة. ولكن عجزها عن طلب توضيحات حول الجريمة التي إرتكبت فوق التراب الفرنسي شجع الملك. فطيلة ربع قرن، الذي تلاها، سحق معارضيه من مختلف القناعات السياسية، وقامت أجهزته الأمنية بإختطافهم بالمئات، أو سجنهم بعد التعذيب الممنهج والمحاكمات غير العادلة بالجملة، وأحيانا في سجون سرية، كما كشفت عن ذلك لجنة الحقيقة بالتفصيل. هذه الفترة بات المغاربة يطلقون عليها "سنوات الرصاص".
خاشقجي، المستشار السابق للعائلة الملكية السعودية، خلق لنفسه أعداء من خلال إنتقاد النظام. إختفاؤه، على غرار إختفاء بن بركة، قد يكون وقحا بشكل مذهل، ولكنه يتوافق مع ممارسات حكومة ولي العهد محمد بن سلمان التي تمارس القمع حتى على الوسطيين من المعارضين، بمن فيهم النساء اللواتي طالبن بشكل علني برفع المنع على سياقة (وهو ما تحقق في شهر يونيو).
الحكومات الغربية، التي تغريها الثروات النفطية السعودية ومشترياتها العالية من السلاح، وإستثماراتها في الخارج، فضلاً عن أهميتها الإستراتيجية، نادراً ما تطعن في سجلاتها في ميدان حقوق الإنسان. الدعوات الشديدة اللهجة، التي يطلقها البعض من أجل الحصول على إجابات حول مصير خاشقجي، والتي يدعمها يدعمها بعض الزعماء الغربيين الذين لم يسبق لهم أن تحدثوا عن الخروقات التي يمارسها السعوديون، وضعت الأمير السعودي في وضعية الدفاع عن النفس في الساحة الدولية لأول مرة.
المنعطف الذي نحن بصدده لا يجب أن يهدر. على المجتمع الدولي أن يضع على محك التحدي فكرة الاصلاح من أعلى إلى أسفل التي يتبناها الأمير وجعلته يسحق كل الإصلاحيين، عدا نفسه.
في الذكرى الأربعين لإختطاف بن بركة، ترأس عمدة باريس حفل إفتتاح "ساحة المهدي بن بركة" قبالة مقهى "ليپ". ربما في يوم من الأيام سيتم وضع لوحة أمام القنصلية السعودية في إسطنبول للإحتفال بذكرى إختفاء خاشقجي. ولنجعل منها أيضا ذكرى لفشل الحكومات في الوقوف إلى جانبهم، وإلى جانب جميع ضحايا هذه الحكومة الوحشية.