وجهة نظر: أمريكا تمضي ببطء نحو الاستبداد.. فهل يحدث ما لا يتوقعه الأمريكيون: إنقلاب عسكري؟
في كتابهما "كيف تموت الديمقراطيات"، كتب الخبيران السياسيان ستيفن ليفيتسكي ودانيال زيبلات: "كيف يتغلب المستبدون على المؤسسات الديمقراطية التي وُجدت أصلا لتحجيم سلطتهم وتقييدها حتى لا تصبح سلطة مطلقة ؟؟ البعض يفعل ذلك في ضربة واحدة. ولكن في كثير من الأحيان يبدأ الهجوم على الديمقراطية ببطء.. إن تفسّخ الديمقراطية يحدث بشكل تدريجي ، وغالبا ما يكون عبر خطوات تحبو".
إن أمتنا الأمريكية منقسمة اليوم حول مواضيع كثيرة، ومن أهمها مسألة ما إذا كان الرئيس دونالد ترامب يشكل تهديدا للأسس الدستورية التي تقوم عليها مؤسساتنا . فهل هو مجرد ظاهرة صوتية ديماغوجية أم هو طاغية مستعد لضرب أسس الحكم التي تنبني عليها جمهوريتنا؟
هناك من بينِنا من أصبحوا يخشون أن يكون الرئيس ترامب يقوم بتقويض الحريات الأساسية وكل الترتيبات التي تحميها ولكنهم يجدون من يتهمهم بالمبالغة في الشعور بالرعب و بعدم القدرة على إدراك قوة ومتانة كل القيود والكوابح التي تقف في وجه الرغبة في التسلط والطغيان ومن هذا المنظور فإن الزعم بأن ترامب يهدد حرياتنا يدل على عدم الإعتراف بعبقرية التجربة السياسية الأمريكية.
من المؤكد أن معظم حقوقنا لا تزال على حالها. لا تزال لدينا حرية التعبير وحرية الصحافة على الرغم من إعتداءات ترامب على كليْهما، أنا أكتب هذا العمود، وأنت أيها القارئ تقرأه و بإمكانك أن تختلف مع مضمونه إذا كنت ترغب في ذلك ولا أحد يمنعك من الإختلاف معي.
إن الحزب المعارض لا زالت له الفرصة السانحة لإكتساح الأغلبية في غرفة من غرفتيْ البرلمان الأمريكي الكونغرس خلال الإنتخابات القادمة في فصل الخريف المقبل . وعلى مستويات أدنى لقد إستطاع قضاة في المحكمة العليا تعطيل العديد من الإجراءات القاسية التي قررها ترامب ومن بينها فصل الأطفال المهاجرين عن والديهم.
من أجل كل هذه الأسباب يجب على الواحد منا أن يشعر بالإرتياح والإمتنان، ولكن بالتحديد عندما يشعر المواطن في نظامنا الديمقراطي بشيئ من الرضى فاعلم أن تحذيرات لفيتسكي و زيبلات هي تحذيرات وجيهة ولها مبرراتها.
دعونا نبدأ بكل تلك الضوابط والتوازنات التي تقيد سلطة الحاكمين ...إن صحتها ترتبط ،كما أشار إلى ذلك زملائي نورمان أورنستين وتوماس مان في كتابهما "أمة واحدة بعد ترامب"، على إرادة من هم السلطة التشريعية والقضائية على أن تكون ولاءاتهم المؤسسية وإشرافهم على النظام بأكمله بعيدا عن ولاءاتهم الحزبية.
ويحدث العكس في الكونغرس الذي يهيمن عليه الحزب الجمهوري. فبإستثناء بضع النواب الجمهوريين المنتخبين في الهامش فقد عمل الكونغرس على ترسيخ وتأييد تجاوزات ترامب (والشاهد هو سلوك النائب الجمهوري من ولاية كاليفورنيا ديفين نونيس لتقويض التحقيق الثالث الذي قام به المستشار الخاص روبرت س. مولر )، والتقليل من حجم سلوك ترامب السيء.
عندما قام ترامب بتنحية مدير المخابرات المركزية الأمريكية السابق جون برينان إنتقاما منه لإنتقادات برينان له (كما إعترف ترامب بنفسه خلال مقابلة مع صحيفة وول ستريت جورنال، فقد إعترض على قيام برينان بواجبه في عام 2016 من خلال بحث العلاقة بين حملة ترامب وروسيا) ، كان الرد من معظم الجمهوريين مثيرا للشفقة. لقد كان إنتقام ترامب تعسفا في إستعمال سلطته إلى أقصى درجة بل أكثر مما كانوا يؤاخذون عليه الرئيس السابق باراك أوباما خلال ولايته. لقد إنتقلوا مباشرة إلى تخويف المنتقدين ومحاولة التأثير على مجريات ونتائج تحقيق قضائي . أين كان بول د. رايان هاوس رئيس مجلس النواب حول هذه القضية ؟؟
عندما بدأ ترامب في تهديد منتقديه فضّل ريان تجاهل القضية وإكتفى بالقول إن ترامب له فقط لهجة إستفزازية معروفة.لا زلنا إلى اليوم ننتظر رد الفعل من طرف زعماء الحزب بعدما تبيّن للجميع أن ترامب تجاوز مرحلة الإستفزاز اللفظي.
قبل أن ينخرط ترامب في سباق الإنتخابات الرئاسية حرص الجمهوريون على تغيير قواعد اللعبة من أجل خدمة مصالحهم، كما ورد على لسان ميشال توماسكي الأسبوع الماضي على صفحات "ديلي بيست". أنظروا إلى عدوانيتهم وسعيهم إلى قمع الأصوات المنتقدة و رغبتهم في منع جلسة الإستماع إلى ميريك جارلاند، مرشح أوباما ليحل محل أنطونين سكاليا في منصب وزير العدل .إن قائمة الإشارات المشؤومة طويلة جدا : منها إستعمال ترامب لتلك العبارة السيئة الذكر التي كان يرددها ستالين "أعداء الشعب" لوصف الصحافة الحرة؛
لقد تحرك عدد من كبار الموظفين الحكوميين من أجل فضح المخالفات والإختلالات المحتملة في تصرف ترامب، بدءًا من مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي السابق جيمس كومي.
كما أن ثناء ترامب اللامتناهي على عدد من الطغاة الأجانب في العالم أمر لا يجب أن يمر مر الكرام بالإضافة إلى خطابه المشحون بالتلميحات العنصرية ورفضه الإلتزام بالممارسات التقليدية المتعلقة بالكشف عن حالات تضارب المصالح المحتمل بين وظيفته من جهة و مصالحه الشخصية ومصالح أفراد عائلته من جهة أخرى.، فضلا عن تلك العادة الإستبدادية المتمثلة في ترسيخ الكذب كوسيلة من وسائل الحكم والتي تجد نموذجا لها في تصريح مدهش ورد يوم الأحد الماضي على لسان روبرت جيولياني خلال برنامج "لقاء مع الصحافة" تبثه قناة ن. ب. س. NBC عندما قال:" إن الحقيقة ليست هي الحقيقة ".
ما هكذا تكون الممارسة السياسية ولكن هكذا أصبح يتصرف المسؤولون السياسيون عندنا، لقد عوّدنا ترامب على تصرفات كانت إلى عهد قريب تؤدي إلى نهاية الحياة السياسية لمن يقوم بها وتدمّر صورته لدى الجمهور.
ربما هناك تصرف أقوى وأشد لم نتعود عليه في الماضي وهو الإنقلاب العسكري. ولكن كما يشير الكاتبان ليفيتسكي وزيبلات، فإن التفكيك البطيء للقواعد والمعايير الديموقراطية أسوأ من كل التصرفات الأخرى مهما كانت صادمة وغير مألوفة.
المصدر: واشنطن بوست
الترجمة إلى العربية: موقع "لكم"